image
السينما المصرية صورت الطبيب النفساني في شكل مجنون
لا يزال الطبيب النفساني يشكو سوء حظه في المجتمع الجزائري، الذي يكاد يتفق على رسم صورة "سيئة السمعة" له ـ فلا يراه الناس إلا من خلال صورة نمطية مستهلكة كثيرا في السينما العربية والأجنيبة على السواء، فيتصورونه وهو متنافر الهندام ـ منكوش الشعر، وكأنه فّّّّّرّ لتوه من مصحة عقلية!. مع أن هذا المواطن الجزائري المصاب بعقدة نفسية تجاه الطبيب النفساني ـ لا يجد حرجا في زيارة مشعوذ ينسب إليه من الأمراض ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ـ ولا يضيره كثيرا، إذا أسرّ له الراقي أن "قبيلة" من الجن اتخذت من جسده متكأ مريحا ..!
فكرة خاطئة
3.5 ملايين جزائري بحاجة إلى الرعاية النفسية بحسب برنامج الصحة العقلية التابع لوزارة الصحة، هذا الرقم المرشح للارتفاع يعكس مدى حاجة الجزائريين إلى طبيب نفساني، ولكن تظل هذه الحاجة حبيسة فكرة يتبناها المجتمع الجزائري، وهي أن من دخل الطبيب النفساني كان مجنونا! لذلك يسلك الناس سبلا كثيرة لعلاج اضطراباتهم النفسية قبل أن يفكروا في زيارة الطبيب النفساني. في هذا السياق يقول الدكتور عبد العزيز فورماص، طبيب الأمراض النفسية والعصبية بسطيف، إن معظم المرضى الذين يزورون عيادته مروا على رقاة ومشعوذين وأطباء عامين قبل أن يصلوا إليه، وذلك لأنهم يحملون فكرة سيئة عن طبيب الأمراض النفسية الذي يمثل لهم الجنون بعينه، وهذه الفكرة - يقول الدكتور فورماص - لها ما يبررها على مستوى المصطلحات الطبية، بحيث أنه كان ميدان الطب النفسي والطب العقلي مرتبطين ببعضهما في القديم، قبل أن ينفصلا ويصبح لكل ميدان مجاله الخاص، هذه الفكرة جثمت على صدور الناس، وأصبح من الصعب التخلص منها، لدرجة أن بعض المرضى لا يفكرون في زيارة الطبيب النفساني إلا بأمر من الرقاة الذين "يشخصون" حالة المريض على أنها حالة نفسية، وأثناء هذه الرحلة الطويلة بين الرقاة والمشعوذين والأطباء غير المتخصصين ـ يضيف الدكتور ـ يتطور المرض النفسي وبالتالي تطول مدة العلاج وربما يصاب المريض بتداعيات خطيرة يصعب السيطرة عليها.
وكمثال على ذلك، ما روته لنا الدكتورة "ع. م" طيببة الأمراض النفسية والعصبية بسطيف، عن شاب كان يعالج عندها من مرض الاكتئاب دون علم عائلته التي كانت تعارض فكرة الطبيب النفساني ـ حيث اقترحت عليه أن يترك الدواء في عيادتها ويأتي لتناوله في الوقت المحدد ـ إلا أن عائلته اكتشفت بالصدفة أنه يتردد على عيادة نفسية، فضربت عليه حصارا في البيت ومنعته من الخروج وماهي إلا أيام قليلة حتى بلغها إنه انتحر. "يعتبر الاكتئاب من أكثر الأمراض النفسية التي تدفع صاحبها دفعا إلى الانتحار مع أن علاجه سهل للغاية، ولكن المجتمع لا يدع مجالا للمريض لزيارة الطبيب النفساني، لأنه في نظرهم مرادف للجنون" تقول هذه الطبيبة.
ويرجع الأخصائي النفساني موهوبي حسين، أسباب نفور الجزائريين من الطبيب النفساني، إلى الأفلام المصرية التي سيطرت لمدة طويلة على المجتمع الجزائري، والتي صورت الطبيب النفساني في صورة مختل عقلي، مع أن أكاديميات علم النفس ـ يقول الأخصائي ـ عرفت ظهورها الأول في العالم العربي في مصر، ولكن السينما شوهت علم النفس بشكل جعل الناس ينفرون من النفساني ويعتقدون أن المريض النفسي لابد أن يتولى علاجه مصاب باضطراب نفسي أو ما شاكل ذلك.
إلا الطبيب النفساني ...!
إذا شعرت باضطرابات نفسية، هل تزور الطبيب النفساني؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على بعض المواطنين فكان جوابهم متقاربا، بحيث تقول لامية موظفة في مؤسسة خاصة: »أنا شخصيا لا أؤيد زيارة الطبيب النفساني لأنه من شأنه أن يسيئ إلى سمعة المريض، وليس مستبعدا أن يصبح في نظر الناس مجنونا حتى وإن لم يكن كذلك". وتشاطرها الرأي "رحاب"، وهو الاسم المستعار الذي اختارته لنفسها للحديث عن هذا الموضوع، حيث تقول: "سبق لي وأن عانيت من اضطرابات نفسية حادة، ولكن لم أفكر في زيارة طبيب نفساني، لا أريد أن يقولوا عني مجنونة خاصة وأنني كنت وقتها مخطوبة".
في حين يرى رياض، معلم في المرحلة الابتدائية، أن المشكلة ليست في الطبيب النفساني في حد ذاته، وإنما في نظرة الناس "لو وجدت طبيبا نفسانيا في منطقة نائية، وليس عنده زبائن، فسأكون مستعدا لزيارته". حول هذه النقطة يقول الدكتور فورماص، إن أكثر من 80 بالمائة من مرضاه يسكنون في مناطق وولايات مجاورة لسطيف، أي أن سكان المدينة يذهبون إلى أطباء خارج الولاية حتى لا يتم التعرف عليهم من طرف الطبيب أو مرضاه، وأن أكثر زبائنه من الأرياف والمداشر، على عكس سكان المدن الذين يفضلون زيارة الرقاة والمشعوذين والأطباء العامين على زيارة الطبيب النفساني.
مشروع "مجانين"!
ومشكلة المشكلات، أن المجتمع الجزائري بابتعاده عن العلاج النفسي، إنما هو يؤسس لمجتمع "مجنون"، فمعظم الأمراض النفسية تبدأ صغيرة يسهل علاجها، ولكنها مع مرور الزمن تستفحل ويصبح من العسير السيطرة عليها ـ فأنت أيها القارئ، إذا شعرت أنك بحاجة إلى طبيب نفساني، فعليك أن تقصده دون أن تلتفت إلى ما سيقوله جارك وقريبك وزميلك في العمل ـ فهؤلاء يحسدونك على شجاعتك في مواجهة مرضك ـ أما إذا تأخرت في علاج نفسك واستفحل داؤك، فما عليك إلا أن تحجز لك مكانا مع 287 ألف مجنون الذين يحتلون شوارع الجزائر!.